لماذا حظي بن لادن بكل تلك الشعبية العارمة بين عامة المسلمين ؟
أن الأمريكان رغم اهتمامهم القديم بابن لادن من جهة المخابرات ألا أن الاهتمام السياسي والإعلامي لم يظهر إلا بعد إعلان الجبهة الإسلامية العالمية. فابن لادن لم يطرأ عليه جديد بخصوص التضحية والجهاد خلال السنتين الماضيتين فالرجل كان ذا تضحية وبذل منذ أن عرف أفغانستان.
لاحظ كذلك أنه لم يبدأ بمعاداة أمريكا علنا بعد إعلان الجبهة الإسلامية العالمية سنة 1998 حين أبدت الإدارة الأمريكية ومن ثم الإعلام الأمريكي اهتماما غير عادي به، بل انه سبق أن أصدر بيان الجهاد لإخراج القوات الأمريكية وغيرها من القوات غير المسلمة من جزيرة العرب سنة 1996 ولم يحظ ذلك إلا باهتمام محدود جدا بل يؤكد بعض المتابعين لقضية بن لادن إن الأمريكان ربما حاولوا تفادي الرد على ذلك الإعلان تجنبا لإعطائه الضجة الإعلامية التي كانت ستشهره.
لاحظ كذلك انه رغم ربط اسمه بانفجار الرياض والخبر فانه لم تبد السلطات الأمريكية أي حرص يذكر لإثبات ذلك مقارنة بمحاولتها ربطه بانفجاري كينيا وتنزانيا، و نفس الملاحظة السابقة تنطبق هنا حيث حرص الأمريكان في تلك المرحلة التقليل من شأن أي دور لابن لادن في انفجاري الرياض والخبر مقابل التأكيد والقطع والتضخيم لدور بن لادن في انفجاري كينيا وتنزانيا.
يبدو أن سبب التحول في الموقف الأمريكي من التجاهل التام لبيان سنة 1996 إلى الاهتمام الانفجاري سنة 1998 يعود إلى إدراك الأمريكان للفرق بين الدعوة إلى إخراج قوات محتلة كافرة من جزيرة العرب المحرمة على الكفار وبين الدعوة إلى قتل الأمريكان في كل مكان وزمان. فالأمريكان يدركون أن الدعوة الأولى دعوة مليئة بالحجة والإقناع وهي فضلا عن كونها مرتكزة على تعاليم شرعية وتلاقي قبولا عظيما عند المسلمين لمن يدعو إلى إخراج الكفار الغزاة من أقدس بلاد المسلمين، فضلا عن ذلك فهي دعوة مقبولة تماما من قبل غير المسلمين بما فيهم الرأي العام الأمريكي، ذلك لأن مطلب إخراج قوات محتلة من بلد محتل مطلب مشروع ومبرر ويلقى صدى عند قوى التحرر والمطالبة بإعطاء الشعوب حقوقها وهي قضية محرجة جدا للحكومة الأمريكية التي تزعم أنها تدعم حق الشعوب في تقرير مصيرها. ويوازي ذلك عمليتي الرياض والخبر ففي تلك العمليتين -اللتان لدى الأمريكان معلومات عن دور لابن لادن فيها- كان الهدف هو القوات الأمريكية داخل جزيرة العرب، فالمستهدف هو قوات عسكرية والمبرر هو وجودها على شكل قوات محتلة في أراض مقدسة.
أما الدعوة الثانية أو الإعلان الثاني المتمثل في إعلان الجبهة الإسلامية العالمية فقد كان مختلفا، لأنه دعوة إلى قتل الأمريكان مدنيين كانوا أو عسكريين، ليس في جزيرة العرب فحسب بل في كل مكان. والأمريكان يدركون أن هذا الكلام من الصعب أن يحظى بأي تعاطف في الرأي العام الأمريكي فضلا عن أنه لن يحظى بنفس القبول الذي لقيه البيان الأول لدى المسلمين وذلك لأنه لا يستند إلى حجة شرعية مقنعة توازي الحجة الشرعية في البيان الأول. ثم جاء انفجاري كينيا وتنزانيا ليثبتا محتوى بيان الجبهة -أو هكذا وضعه الأمريكان- فالمستهدف هنا ليس قوات أمريكية بل بضعة أمريكان وليمت معهم من يمت من الضحايا حتى لو كانوا أبرياء بل حتى لو كانوا مسلمين ولا مانع أن يقتل المئات مادام هناك ضحايا أمريكان. والميدان هنا ليس الأراضي المقدسة ولا حتى أمريكا نفسها وبذلك يمكن تجريد بن لادن من التعاطف الإسلامي والعالمي من خلال إظهاره كشخص متعطش للدماء بلا مبرر ديني ولا منطق سياسي مقبول.
من هنا جاء الحماس الأمريكي لمواجهة بن لادن بعد قضية إعلان الجبهة والانفجارين لكن هذا الحماس الأمريكي تزامن مع قضية فضيحة كلينتون مع لوينسكي مما أدى إلى تخبط في السياسة الأمريكية تبعه رد الفعل الإسلامي وهو ما نناقشه في المحور الثاني.
المحور الثاني: وهو لماذا حظي بن لادن بكل تلك الشعبية العارمة بين عامة المسلمين ؟
أهم عامل في ذلك لم يكن بيانات بن لادن ولا تفجيري كينيا وتنزانيا ولا تفجيرات الرياض والخبر.
العامل الرئيسي هو ردة الفعل الأمريكية المتمثلة في ضرب أفغانستان والسودان وتصريح كلينتون بأنه أتخذ قرار الضرب ردا على بن لادن. من أجل تصور هذه النتيجة ينبغي فهم العقلية الإسلامية الحالية التي تشعر بعداء أمريكا بسبب مواقفها ضد المسلمين وفي المقابل ترى انبطاح حكام المسلمين لأمريكا واستعدادهم لتنفيذ خططها وبرامجها، ولهذا فهم متعطشون ومتلهفون وبقوة لمن يقف بوجه أمريكا ويثبت أنه أوجعها، وأي إثبات بأن بن لادن أوجع أمريكا وشفى صدور المسلمين أكثر من أن يقف كلينتون بنفسه ويردد اسم بن لادن ثلاث مرات وهو يعلن عن ضرب السودان وأفغانستان كرد على بن لادن وينفجر بعدها الإعلام الأمريكي وتبعا له الإعلام العالمي والعربي بوصف الحرب الدائرة بين بن لادن وأمريكا..
و لو لم تعمد أمريكا إلى الرد بهذه الصورة لربما لم يتحول بن لادن إلى ذلك البطل الأسطوري، بل انه لو تمهلت أمريكا وحاولت استغلال الثغرات الشرعية في بيان الجبهة العالمية مستعينة بمن ترشحهم الحكومة السعودية والمصرية من علماء السلطة وركزت على الدماء والأشلاء في كينيا وتنزانيا حيث قتل عدد كبير من المسلمين، لو عملت ذلك لم يحصل ما حصل من الشعبية لابن ، ولعل الله أراد أن يربك الأمريكان حين قدر أن يتورط رئيسهم بتلك الفضيحة فانقلبت المعادلة بالكامل.
آل سعود لم يتبرأوا من بن لادن لأنه "إرهابي"، بل تبرأوا منه لأنه اشتهر وأصبح أعظم منهم شأنا، فالإرهابيين "السعوديين" كثير ومع ذلك لم يتبرأ آل سعود إلا من بن لادن. والسبب له علاقة بتركيبة آل سعود النفسية أكثر من علاقته بابن لادن فآل سعود لا يريدون لأحد ينتمي للبلد المسمى باسمهم أن يكون أعظم شأنا منهم. وعادة ما يتعامل آل سعود مع هذه المشكلة بتحجيم الشخص الذي كبر حجمه مثل ما عملوا مع القصيبي وعايض القرني وسلمان العودة وسفر الحوالي، أما بن لادن فليس لهم سبيل لتحجيمه لأنه بعيد عن نفوذهم وكان الحل الوحيد هو نزع صفة الانتماء للمملكة، ولذلك كانت رائحة الانزعاج من شهرة بن لادن و التأذي من علو شأنه تفوح من التعبير والأسلوب الذي استخدمه الأمير نايف والأمير سلطان في التعليق على قضية بن لادن. وقياسا على هذه القاعدة لن نستغرب إذا صدر أمر بسحب جنسية الخطاب الذي يجاهد في الشيشان إذا استمرت شهرته في التنامي وانتظروا تصريحات لنايف عن الخطاب تشبه بتصريحاته عن بن لادن.
قضايا وتحليلات عن أسامة بن لادن
شخصية بن لادن
نشأ بن لادن نشأة صالحة سواء من حيث الالتزام بفروض الإسلام أو من حيث الأخلاق والأدب العام. تعوّد بن لادن في ظلال تربية والده على المسؤولية والثقة بالنفس والكرم والتواضع و هي صفات قلما تجتمع في شخص واحد. ويعرف عنه كذلك الحياء وقلة الكلام ويبدوا عليه ملامح الجدية معظم الأحيان و يحاول مع ذلك أن يبدو بشوشا لكنه يتجنب رفع الصوت عموما أو المبالغة بالضحك. هذا كله عرف عنه حتى قبل أن ينخرط في الجهاد.
بعد أن انخرط في الجهاد تجلت فيه صفات أخرى من بينها البذل والتضحية و الصبر و التحمل، وترجمت ثقته بنفسه وقدرته على تحمل المسؤولية إلى قدرة قيادية سواء من حيث المفهوم الميداني أو من حيث مفهوم قيادة الجماعة. و لابن لادن شعبية قوية عند أتباعه فهم يحبونه حبا جما، لكن يقول العارفون به عن قرب أنه لسبب أو لآخر فإن "الكاريزما" عنده ليست طاغية ربما لأنه يتجنب التميز عن أتباعه ويتبسط أكثر من اللازم فتزول آثار الهيبة. ويحرص بن لادن على مشاركة الشباب المرافقين له في كل نشاطاتهم وحياتهم اليومية ويتجنب أن يتميز عنهم بأكل أو شرب أو ملبس أو سكن. ورغم أنه متزوج من عدة نساء ألا أنه يقضي مع أتباعه وقتا أكثر مما يقضي مع أسرته.
القدرات القيادية والذهنية
من حيث المستوى العقلي والقدرات الذهنية يوصف بن لادن بأنه على درجة جيدة من الذكاء والثقة بالنفس ودقة الملاحظة والبديهة. لكن من حيث ربط هذه القدرات الذهنية بقدرته القيادية والتخطيطية يشير العارفون بشخصيته أن لديه شيء من التردد في اتخاذ القرارات والحكم على الأمور إلى درجة تؤدي إلى الضرر بعض الأحيان. لكن هناك من يبرر تردده بأنه يفضل التريث في اتخاذ القرارات واستشارة العلماء والمشايخ وليس بسبب عدم ثقة بالنفس. ويحرص بن لادن فعلا على استشارة العلماء حتى مع الظروف الأمنية الصعبة ولعل هذا كان من أسباب تأخر القرارات من قبله. وفي حين يعتبر بعضهم ذلك دليلا على الرشد والتروي فإن آخرين ينظرون إلى توسيع دائرة الاستشارة وتضمنها للقضايا الحركية بتفاصيلها وانتظار الرأي من عدد من العلماء الذين يصعب الاتصال بهم تكلفا زائدا يتعارض مع طبيعة الحسم و العزيمة في القيادة.
الشجاعة والحذر
من الصفات الصارخة التي يتحلى بها والتي يجمع عليها أنصاره وأعداؤه صفة الشجاعة، ويقول القريبون منه أنه بالإمكان أن تنفجر قنبلة ضخمة على مسافة قريبة ولا تتحرك منه شعرة. ولقد تعرض خلال أحداث أفغانستان إلى أكثر من أربعين مرة لحوادث قصف ثقيل وفي ثلاث حالات منها كان اللحم يتطاير عن يمينه وشماله ولم يظهر عليه ما يدل على تأثر يذكر سوى الحزن على فقد بعض أحبائه.
من الحوادث الخطيرة والتي أنجاه الله منها بما يشبه المعجزة ما حصل حين انفجر صاروخ سكود على بعد سبعة عشر مترا فقط، وفي أكثر من مرة ينقل إلى المستشفى أو إلى المسعف المحلي بسبب جروح يصاب بها ، وفي مرة من المرات شارف على الموت لأن سحابة السلاح الكيماوي وصلت إليه. وكان بن لادن ولا يزال يتمنى الشهادة وهو يعتبر نفسه يعيش بما يشبه العمر الإضافي لأنه أشرف على الموت كثيرا وكتبت له الحياة، وقد أعطاه هذا الشعور دفعة إيمانية وشعور بضرورة الاجتهاد في الحرص على رضا على أساس أنه من فضل الله وأعطاه مزيدا من الشجاعة ولا مبالاة بخطط الأعداء كونه تساوى عنده الموت والحياة.
لكن برغم شجاعته فقد كان حذرا جدا وقد تعلم من خلال تجربته الشخصية ومما أخبره بعض أصحابه من أهل الخبرة السابقة بقضايا الأمن فنونا كثيرة في الاحتياطات الأمنية. يذكر عنه مثلا أنه لا يسمح بوجود أي آله إلكترونية في المكان الذي يقيم فيه حتى لو كانت ساعة كهربائية لأن ذلك مما يمكن أن يساعد في الاستدلال عليه من خلال أجهزة خاصة. إضافة لذلك فإن لديه فريق للأمن والحراسة لديهم تدريب خاص على ذلك. ويذكر عنه كذلك أنه منذ أن أصبح خصما لجهات لها نفوذ ومخابرات قوية لم يعد يثق إلا بالمجموعة التي يعرفها جيدا ولا يقبل بالتزكيات الخارجية. ومن الطبيعي لمثله أن يحيط تحركاته و تنقلاته بسرية تامة ويستخدم وسائل وحيل للتضليل عن تحركاته .
العاطفة مقابل الشدة
ومن المفارقات المجتمعة في بن لادن العاطفة والرقة من جهة والشدة والعناد من جهة أخرى، فهو شديد التأثر إذا مر بتجربة رأى فيها شخصا عزيزا عليه يصاب بمكروه أو ذكر بقصة مرت عليه فيها أحداث عاطفية لكنه في نفس الوقت ورغم هذا التأثر لا يغير مواقفه مراعاة لذلك التأثر. ولهذا السبب فهو يعاني بشكل كبير حيث يفكر كثيرا بالشباب الذين أوذوا من أجله سواء داخل المملكة أو خارجها وفي نفس الوقت لا يخطر بباله أن يغير أيا من مواقفه بسبب ما أصاب هؤلاء. ونفس الكلام ينطبق على موقفه من أهله وإخوانه ووالدته فهو من أشد الناس برا بوالدته وحنينا إليها وحملا لهمها وخوفا على ما يصيبها من مضايقات ومع ذلك لا يعتبر ذلك أبدا من الأسباب الداخلة في صياغة برنامجه و قراراته.
أما إخوانه فكما سنرى خلال الحديث عن العائلة أنه من أهل الصلة والحرص على الروابط العائلية والخوف على إخوانه لكن لا يعطي ذلك أي دور في قراراته وبرامجه.
ومن العواطف المؤثرة في بن لادن حبه للحجاز حبا جما وكان يقول إن خيمة تحت جبال الحجاز أحب إليه من قصر على النيل، و هو يعتبر حبه لذلك الموطن مضاعف لأنه أولا موطن شرفه الله بالرسالة ، وثانيا موطن ولد فيه وترعرع وله فيه ذكريات جميلة. لكن مع ذلك لا يعدل بن لادن بأرض الجهاد موطنا ولا يعدل بذكرياتها ذكريات. ولذلك فإن بعض مواقع أفغانستان التي جرت فيها أخطر المواجهات مع الروس وشارك فيها بنفسه وفقد فيها عددا من رجاله تعتبر بالنسبة له من أجمل المواطن وذكرياتها من أحلى الذكريات.
الثقافة والعلم
أما من حيث الثقافة والمعلومات العامة والتحصيل العلمي والشرعي فيقال أنه على درجة جيدة وهو يحب القراءة ويكثر منها وعنده شغف غير عادي بالمعلومات والوثائق والأرشفة ومتابعة الصحافة والتقارير الخاصة، ولذلك يحرص دائما أن يكون معه فريق من الباحثين والمهتمين بقضايا المعلومات أينما رحل. وقد حرص بن لادن على تحسين معرفته بالعلوم الشرعية واللغة العربية ولذلك يرتب دائما أن يكون من بين المرافقين له أحد طلاب العلم المتمكنين .
ويعرف عن بن لادن حب الشعر وتذوقه ويقال أن له محاولات شعرية ربما ليس فيها من التميز ما دعا لأن تظهر، ويقال إنه يراعي الدقة في اللغة العربية إلى درجة الوسواس عند مشاركته في نشاط إعلامي أو كتابة بيان أو رسالة. لكن يقال أن بن لادن لا يحب أن يتفرد بكتابة ما ينشر منسوبا له بل يفضل إشراك بعض طلبة العلم المرافقين له.
الفكر و المنهج
تأثر بن لادن خلال حياته بالحركات الإسلامية بشكل عام لكنه لم ينتم لأي منها انتماء تنظيميا و إنما تأثر بالأفكار و المفاهيم التي طرحتها تلك الجماعات مثل التذكير بشمولية الإسلام والاهتمام بقضية الحاكمية والحث على العودة للعلم الشرعي وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم وسير الخلفاء وضرورة العمل الجماعي للمشروع الإسلامي. وتأثر بن لادن كذلك ببعض الشخصيات الدعوية والجهادية والفكرية وكان من أبرز من تأثر به الأستاذ محمد قطب والشيخ عبد الله عزام. ورغم أن بن لادن شخص مشهور وله أتباع من الناحية الحركية فإنه لا يمثل مدرسة مستقلة من الناحية الفكرية. ويعتبر بن لادن غير مكثر من جهة الحديث والكتابة والمحاضرة والإنتاج الثقافي والفكري. ولو جمعت المحاضرات التي ألقاها لما تجاوزت أصابع اليد ولذلك لم تنتشر له تسجيلات إلا قليل جدا وفي دائرة ضيقة. كما إنه لا يعرف له مؤلفات أو كتب أو رسائل سوى البيانات المنسوبة له والجهات التي أسسها.
وإذا أريد وصف بن لادن من حيث المنهج فإنه أقرب إلى السمت العام للشباب الملتزم في بلاد الحرمين من أتباع علماء الصحوة، فهو ممن يؤمن بالنهج السلفي من جهة الاعتماد على الدليل الشرعي وذلك مقابل احترام أقوال العلماء الآخرين والأدب عموما مع العلماء حتى مع من يوالي الحكام منهم فيما عدا استثناءات قليلة. كما إنه يحترم الجماعات الإسلامية العاملة في العالم الإسلامي رغم مؤاخذته عليها في قضايا معينة. أما من جهة الحكم على المسلمين فهو ممن يؤمن بأن عامة المسلمين مغلوب على أمرهم، وهم ما بين ملبس عليه أو منحرف لأسباب ومصالح دنيوية، ورغم أن بن لادن يهتم بقضية الحاكمية كما هو حال معظم الجماعات والحركات الإسلامية التغييرية ويعتبر معظم أو ربما كل الأنظمة الحاكمة غير شرعية ألا أنه يتجنب تكفير الأعيان ولم ينسب له تكفير أي من الأعيان المعروفين. وبسبب عيش بن لادن مدة طويلة في بلاد تعج بالخرافات والبدع فقد تعلم فن الموازنة بين رفض هذه البدع والخرافات من جهة وبين التعامل مع الواقع الاجتماعي والسياسي دون مواجهة من جهة أخرى. وباختصار فإن بن لادن لا يمثل مدرسة مستقلة سواء من الناحية الفكرية أو من الناحية الحركية والاستراتيجية وسوف نرى أن برنامجه الحركي ومشروعه الاستراتيجي ليس نتيجة نظرته الفردية المتميزة أو تصوراته الشخصية بل هي على الأرجح حصيلة عدة عوامل من بينها تأثير البيئة المحيطة به وخاصة من يستشير من طلبة علم والمختصين.
عائلة بن لادن
توفي محمد عوض بن لادن عن ما يزيد عن الخمسين (54عاماً) ما بين ولد وبنت . بعد وفاته استلم شؤون العائلة الابن الأكبر سالم بن لادن . كان سالم ذا شخصية قوية أدت من جهة إلى تماسك العائلة وبقائها منضبطة ومن جهة أخرى إلى حمايتها من تدخلات العائلة الحاكمة . وكان أسامة ينظر لأخيه سالم نظرة الوالد وأعجبه فيه قوة شخصيته وحرصه على حماية العائلة . توفي سالم في بداية الثمانينات ( تاريخ وفاة والد أسامة كان في منتصف 1386 هجرية ) في حادث شبيه بحادث وفاة والده وهو سقوط طائرة خاصة وكانت وفاته خسارة للعائلة بانت آثارها بسرعة حين دخل أفراد من العائلة شركاء في شركة بن لادن الكبرى وشركات بن لادن الصغيرة.
كان ترتيب أسامة الحادي والعشرين تقريبا بين الأبناء ولكن مع ذلك كان يُُنظر إليه من قبل بقية أفراد العائلة كما لو كان حكيم العائلة وخاصة حينما بزغ نجمه في أفغانستان وبعد وفاة أخيه سالم. كان أسامة مثلا هو المرجع والحكم في خلافات العائلة الداخلية. وخلال أيام الجهاد في الثمانينات كان إخوانه وأخواته والأقارب الآخرون يتسابقون في استضافته في منزلهم إذا عاد للمملكة. ونظرا لأن مدة بقائه في المملكة غالبا ما تكون محدودة ففد كان يلزمهم بالاتفاق على اللقاء في بيت أكبر الموجودين. وفي كل مرة يعود للمملكة يقوم إخوانه بتقديم أبنائهم له وتعريفه بهم واحدا واحدا وتأتي أخواته بأبنائهن ويقدمونهم له معرفات بهم واحدا بعد الآخر. وكان بعض أخواته يدعن تسمية أبنائهن له تبركا باختياره.
بقيت العلاقة كذلك إلى أن غادر إلى السودان ثم إلى أفغانستان. وبالطبع لم يتغير افتخار عائلته به وحرصهم على الصلة قدر الإمكان، وأما ما نسب لإخوانه من إعلان للبراءة منه فغير صحيح، بل كان بيانا مكذوبا عليهم، ويعلم القريبون من العائلة أنهم تعرضوا للتهديد إذا أعطوا أي إشارة أن هذا البيان مكذوب عليهم. المهم أن العائلة أبقت شيئا من الصلة مع أسامة ولم يكن كل ذلك بعيدا عن عين الدولة التي كانت تريد لذلك أن يبقى كخط اتصال احتياطي وهو ما احتاجت له الدولة فعلا أكثر من مرة في السودان وفي أفغانستان. بطبيعة الحال فإن اتصال عائلته به الآن صعب جدا.
تزوج أسامة أول زواج في سن مبكرة حين كان عمره سبعة عشر عاما تقريبا وكانت الزوجة الأولى من أخواله وبقية الزوجات من عوائل مكة أحداهن من الأشراف. الطريف أن ثلاث من زوجاته تمكن من إتمام الحصول على الشهادات العليا بينما كن على ذمته. لا تزال زوجات بن لادن معه في أفغانستان وسابقا في السودان فيما عدا واحدة يقال أنها بقيت بظروف خارجة عن إرادتها.
أما أبناء وبنات أسامة ربما تجاوز عددهم العشرين. ولأسامة سياسة صارمة في تربية الأبناء والبنات. فالأبناء لابد لهم من إتقان الفروسية و لابد من تعريضهم لخشونة العيش، والبنات لهم القرآن والعلم الشرعي. ولذلك كان أسامة يتعب حين كان في المملكة حيث يعيش أبناؤه في جو قريب من أبناء عمومتهم حيث الغنى والترف ويجد صعوبة في تعريضهم للخشونة دون قطع رحمهم. مثلا كان بعض إخوانه يعبر عن محبته لأبناء أسامة بإهداء سيارة بمناسبة نجاح أحدهم و هذا ما يعتبره أسامة خارج قاموسه تماما لكن لا بد له من مجاملة إخوانه فتجده يقبل الهدية و يتصرف بالسيارة ( إلا إذا كانت أمريكية!).
وبسبب انشغال أسامة فقد كان يقتطع وقتا لأهله سواء العائلة الصغيرة أو الكبيرة. حينما كان في المملكة كان يخص يوما كاملا في الأسبوع لعائلته ويجمع معهم والدته وأخواته وغالبا ما يقضي ذلك اليوم خارج جدة وفي معظم الأحيان يكون ذلك في مزرعته.
تمكن أسامة من اصطحاب كل أبنائه معه ما عدا ثلاثة منهم الكبير واثنين آخرين. أما الكبير فقد ذهب للمملكة للزواج فمنع من السفر وأما الولدان الآخريَين فلا يزالان في سن الابتدائية ومع ذلك موضوعان على قائمة منع السفر ربما لابتزاز أسامة أو لإبقائهما رهينتين لحماية أفراد العائلة الحاكمة من "غضب" بن لادن .
بن لادن وآل سعود
خلافا لما يعتقد أو يزعمه الكثير فإن بن لادن لا يرتبط ولم يرتبط بأي علاقة خاصة على المستوى الشخصي مع آل سعود. كل ما حصل من اتصالات في الماضي بما فيها الاتصالات أيام الجهاد وخلال أزمة الخليج تم عن طريق إخوانه. كان لإخوانه علاقة خاصة مع أحمد بن عبد العزيز وعبد الرحمن بن عبد العزيز. كما كان هناك علاقة لا بأس بها مع الملك فهد وعبد الله وسلطان وأمراء مكة الذين تعاقبوا عليها.
العلاقة مع أمريكا
خلافا لما يتردد في بعض الكتابات لم يكن لابن لادن أي علاقات مع أمريكا لا مباشرة ولا غير مباشرة، وكل مزاعم من هذا القبيل افتراءات ليس لها أصل البتة. بل الحقيقة أن موقف بن لادن من أمريكا كان عدائيا منذ أن عرف أفغانستان. ومن ضمن ما ثبت من أقواله في بداية الثمانينات حينما كانت أمريكا تظهر أمام العالم وكأنها تدعم الجهاد الأفغاني إن المعركة القادمة ستكون مع أمريكا. ولم تكن هذه القضية بالنسبة له مجرد نبوءة يلطف فيها المجلس بالحديث بل كانت موقفا وقفه على أساس وأصل، والدليل أنه التزم منذ تلك الفترة وألزم أهله ومن له أمر عليه بعدم شراء أي بضاعة أمريكية إلا ما لا يمكن الاستغناء عنه.
علاقة أمريكا بالقضية الأفغانية و بن لادن
أولا: كان هناك دور أمريكي قوي جدا في أفغانستان لا يمكن إنكاره وكان هذا الدور على شكل تدخل سياسي ومالي عسكري وتجنيد واختراق وتجسس وكان من ضمن المستهدفين بهذا النشاط ما يسمى بالأفغان العرب.
ثانيا: تم التدخل الأمريكي بشكل مباشر من خلال وجود حقيقي لأفراد أمريكان سواء من المخابرات أو من جهات سياسية أخرى، كما تم كذلك بشكل غير مباشر عن طريق باكستان والسعودية ومصر.
ثالثا: كان هناك فرق أفغانية تعاونت مع أمريكا بشكل شبه مكشوف مثل جماعة مجددي وجيلاني ومحمد نبي لأنها جماعات كانت مستعدة منذ البداية للتساهل في المشروع الجهادي وانصب كل الدعم الأمريكي والسعودي عليها في بادئ الأمر.
رابعا: حصلت المجموعات التي كانت تعتبر نظيفة في ذلك الوقت مثل جماعة رباني وحكمتيار وسياف على دعم أمريكي غير مباشر إما عن طريق باكستان أو السعودية.
خامسا: كان هناك تفاهم أمريكي باكستاني سعودي على ترويض المجاهدين بعد خروج الروس، وإذا لم يمكن ترويضهم يتم إذكاء الخلافات لأقصى ما يمكن وتم ذلك فعلا.
سادسا: خلافا لما يعتقد لم يكن للأمريكان دور في تكوين طالبان وإنما ظن الأمريكان في البداية أن الطالبان قوة مناسبة للتوازن فسكتوا عنها ولم يكتشفوا خطرها إلا بعد فوات الأوان.
سابعا: لا يزال الدور الأمريكي حاضرا وقويا في أفغانستان رغم تقطيع طالبان لخيوطهم وذلك من خلال باكستان ومن خلال دعم شاه مسعود ومن خلال الضغط العالمي والحصار.
ثامنا: ربما وقع في يد بن لادن سلاح أمريكي إما شراءاً أو من أحد الأحزاب الأخرى لكن لم يحصل أن استلم بن لادن أي سلاح من أمريكا بل لم يتعامل مطلقا مع أمريكان رسميين.
و لم يكن لابن لادن أي علاقة مع الأمريكان بل كانت العلاقة علاقة عداء، لكن الأمريكان لم يخطر ببالهم أن يصبح بن لادن مشكلة لهم في يوم من الأيام.
العلاقة مع باكستان
يحظى بن لادن باحترام كبير في أوساط الباكستانيين العاديين وفي أوساط الجيش الباكستاني وعدد كبير من علماء باكستان، لكنه لم يقم أي علاقة مع جهات باكستانية رسمية وكان على وعي تام أنهم متفاهمين مع الأمريكان والسعوديين وأن العلاقة معهم لن تأتي بخير. لكن احترامه عند الجيش والعلماء نفعه كثيرا سواء أيام الجهاد أو الآن، وذلك لأن الجيش الباكستاني مؤسسة يلعب فيها الدين دورا مهما وفيها عدد من القيادات المتعاطفة مع قضايا الجهاد. ويمكن القول أن هذا الاحترام أمن لابن لادن دعما غير مباشر في عدة مراحل سواء من جهة المعلومات أو من جهة دعم لوجستي
.
العلاقة مع إيران والعراق
لا توجد أي علاقة مع إيران والعراق وقد ظهرت مزاعم عن ذلك في بعض كتابات اليهود الأمريكان لإعطاء انطباع أن بن لادن وإيران و العراق وحزب الله وحماس والترابي و . . و . . وهي جماعة إرهابية عالمية واحدة مختلفة في العلن متفقة في السر!!!.
بن لادن الغني
يتحدث الكثير عن بن لادن كما لو كان ذا شأن بسبب المال وحسب. لا شك أن المال أعطاه تميزا ولا شك أن تضحيته وعطائه من جهة المال كان لها دور في شهرته لكن ذلك ينبغي أن يوضع في سياقه الصحيح. وذلك لأن الذين بذلوا المال في وجوه الخير كثير بل هناك من بذل أكثر مما بذل بن لادن. وجاء تميز بن لادن أن جعل الأصل في حياته الجهاد والنشاط المالي فرع ومسخر لخدمة الجهاد وكل ما نتج من النشاط المالي من نفوذ وعلاقات وقوة فهو لخدمة الجهاد وهذا ما لم يستطع غيره من أهل الغير الذين يبذلون لخدمة الإسلام بل حتى لخدمة الأغراض الجهادية.
كيف يستثمر ؟
قبل أن يغادر بن لادن المملكة مغادرة نهائية كان نشاطه المالي نسخة من نشاط إخوانه سواء كان ذلك في المقاولات أو في التجارة أو الصناعة. وإضافة لشراكته في الشركة الرئيسية فقد كان لأسامة نشاطاته المنفصلة حتى عندما كان في المملكة. لكن أسامة تميز عن إخوانه في نشاطاته المستقلة بالمحافظة على سياسة محددة في نشاطه المالي. كان هدفه من هذا الالتزام هو ضمان الصبغة الإسلامية لهذا النشاط وصفة الحلال للمال.
سياساته المالية
من ضمن هذه السياسات أنه كان يرفض مطلقا الاستثمار في بلد غير إسلامي إلا إذا كان ذلك مما لا مفر منه كأن يكون البلد الإسلامي لا يوصل إليه في القنوات المالية إلا من خلال بلد غير إسلامي. ومن ضمن هذه السياسات بالطبع تحاشي أي نشاط فيه شبهة ربا ولذلك كان يتجنب الاستثمار في البورصة والأسهم الغربية لأنه يعتقد أن المستثمر لا يمكن أن يضمن أن تلوثها بالربا بسبب وضع الأموال في بنوك ربوية واختلاط الأرباح بالفائدة. ومن ضمن سياساته أنه يحب الإشراف بنفسه على معظم النشاط المالي رغم أمانة الذين يعملون معه. ومن سياساته الحرص على استشارة العلماء وطلبة العلم في كل النشاطات المالية تجنبا للوقوع في موانع شرعية خفية.
ثلاث صدمات
تعرض أسامة من الناحية المالية لثلاث صدمات أثرت على نشاطه المالي بشكل كبير. الصدمة الأولى هي قرار الحكومة السعودية تجميد أمواله المعروفة المنقولة منها والثابتة وذلك بعد أن علمت أن لا أمل في رجوعه بعد الخروج الأخير. وقيمة هذه الأموال تتراوح بين 200 إلى 300 مليون دولار عند التجميد حيث وضعت تحت سيطرة جهات رسمية . هذه القيمة هي التي ترددها كثير من وسائل الأعلام حين تتحدث عن بن لادن وتذكر قيمة أملاكه أما الأموال التي تحت تصرفه حاليا فقضية أخرى.
الصدمة الثانية جاءت من عجز الحكومة السودانية من دفع تكاليف المشاريع التي نفذها أسامة والتي كان أشهرها طريق التحدي الذي يربط بورسودان بالخرطوم. ويعتقد أن بن لادن لم يستطع استخلاص أكثر من 10% من الأموال التي يطالب بها الحكومة السودانية والتي ربما تجاوزت 200 مليون دولار.
الصدمة الثالثة جاءت من اضطراره للتخلص من عدد من الشركات التي تسرب خبرها للحكومة السعودية وإقفالها.
هذا كله قبل أن يدخل في مرحلة الصراع المكشوف مع أمريكا وليس غريبا أن تكون ظروفه الآن تتعارض مع نجاح أي نشاط اقتصادي.</div>